
أكاديميون يجمعون على الأدوار المحورية للمبادرة الأطلسية في توطين المغرب لدوره الإقليمي ضمن منطق القوة الذكية

عبد الصمد ايت حماد – مراكش الآن
احتضنت كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بقلعة السراغنة، يوم أمس السبت 17 ماي، فعاليات منتدى التحليل الاستراتيجي لشؤون الأطلسي والساحل، بمشاركة نخبة من الشخصيات الأكاديمية من مختلف الجامعات المغربية، إلى جانب باحثين وطلبة وفعاليات مدنية، في تظاهرة علمية عكست الزخم المتزايد للنقاش العمومي والأكاديمي حول موقع المغرب في الديناميات الجيوسياسية للقارة الإفريقية، ودور المبادرات الملكية في إعادة صياغة التوازنات الإقليمية.
وقد استُهلّت أشغال المنتدى بكلمة افتتاحية ألقاها الدكتور محمد الغالي، عميد الكلية، رحب فيها بالحضور، وأكد على أن المبادرات الملكية في منطقة الساحل والأطلسي تستند إلى منطق الاستباق والاستشراف، وأن الرؤية التي تقوم على جعل الأقاليم الجنوبية بوابة لتنمية إفريقيا أثبتت نجاعتها، من خلال تفعيل مشاريع استراتيجية تعزز مكانة المغرب في عمقه الإفريقي.
في هذا السياق، قدم الباحث سعيد بوفريوي مداخلة وازنة تناول فيها المبادرة الأطلسية من زواياها الدينية والجغرافية والسياسية، مبرزاً أنها ثمرة اشتغال استراتيجي امتد لسنوات، تجسد في الحضور الاقتصادي المتصاعد للمغرب داخل القارة، ومشاريع ضخمة من قبيل خط أنبوب الغاز نيجيريا-المغرب، الذي يمتد على 3000 كلم، ومن المنتظر أن تستفيد منه 5,7 مليون أسرة. وأكد بوفريوي أن هذه المشاريع تتجاوز الاعتبارات الوطنية إلى أبعاد إقليمية تهم دولاً غنية بالثروات الطبيعية، كما تنفتح على القوى الدولية الكبرى، مثل الولايات المتحدة وفرنسا، مما يجعل من المبادرة منصة لإعادة موضعة المغرب في النظام الإقليمي والدولي رغم محدودية إمكانياته الاقتصادية.
وفي إطار الربط بين الدبلوماسية الاقتصادية والثقافية، أبرز خالد الفتاوي، الباحث في إدارة الأعمال ورئيس الجمعية المغربية الصينية للإنعاش الثقافي والاقتصادي، أن المغرب مرشح لأن يشكل بوابة الصين إلى إفريقيا من خلال الشراكة مع المجتمع المدني، مشيراً إلى الجهود المبذولة في عقد اتفاقيات تعاون مغربي-صيني. كما أكد على أهمية استثمار الطلبة المغاربة في مختبرات البحث الصينية المتخصصة في الدراسات الإفريقية. وفي نفس السياق، أشاد بالعبقرية الاستراتيجية للملك محمد السادس، واعتبر أن المغرب يفتخر بطريق الساحل كما تفتخر الصين بطريق الحرير، في أفق استشراف نهضة إفريقية-مغربية مشتركة.
أما الدكتور سعيد الخمري، فقد سلط الضوء على أبعاد الدبلوماسية الدينية للمغرب في إفريقيا، مشدداً على دور مؤسسة إمارة المؤمنين في ترسيخ الروابط الروحية مع دول القارة، خاصة عبر الطرق الصوفية كالتيجانية، وبناء المساجد وتكوين الأئمة، والدروس الحسنية، وهي أدوات تسهم في نزع الشرعية عن الجماعات المتطرفة، في سياق إقليمي يطبعه تصاعد التحديات الأمنية والعلاقات الملتبسة بين الحركات الانفصالية والإرهاب العابر للحدود.
وفي مداخلة تحليلية معمقة، تناول الدكتور محمد الزهراوي الأبعاد الجيوسياسية للمبادرة الأطلسية-الساحلية، مشيراً إلى أن المغرب يوظف واجهته البحرية الأطلسية للربط مع فضاءات قارية جديدة، في عالم يعرف صراعاً متصاعداً على الممرات البحرية. واعتبر الزهراوي أن المشروع المغربي يسعى لإعادة تشكيل التوازنات الإقليمية، في ظل محاولات مستمرة من الجزائر لإضعاف المغرب وتقسيمه، كما أن المبادرة تنطوي على بعد تكاملي في بناء تكتلات إفريقية جديدة.
ومن جانبه، أثار الدكتور عمر الشرقاوي، أستاذ العلوم السياسية، جملة من التحديات التي تتهدد المشروع الأطلسي المغربي في ظل سياق دولي موسوم باللايقين. واستعرض الشرقاوي ما أسماه بـ”مخاطر الجغرافيا السياسية”، من بينها تصاعد الإرهاب في المنطقة، مع وجود أكثر من 20 تنظيماً متطرفاً، وتنامي النزاعات الانفصالية، والهجرة الجماعية التي تتجاوز 30 مليون نسمة سنوياً، وصراع القوى الكبرى على النفوذ في إفريقيا، إلى جانب تحديات الاندماج الإثني والتغير المناخي، معتبراً أن المبادرة الأطلسية يمكن أن تشكل رداً استراتيجياً على هذه التهديدات البنيوية.
فيما أوضح الدكتور صلاح الدين أبوزيد أن المنتدى المنعقد بقلعة السراغنة يأتي امتدادًا لمنتدى العيون، ويعكس التفاعل الأكاديمي والبحثي مع المبادرة الأطلسية. وشدد على ضرورة تعبئة الإمكانات العلمية والدبلوماسية الموازية لإنجاح المبادرة، خاصة في ظل تعقيدات المشهد الجيوسياسي بمنطقة الساحل والتنافس الحاد بين فرنسا وروسيا والصين على النفوذ الإفريقي
من جهته قال الدكتور توفيق عطيفي، باحث في القانون العام والعلوم السياسية، أن الدبلوماسية الدينية تُعد فرعاً ناشئاً ضمن حقل العلاقات الدولية، وهي تندرج ضمن ما يُعرف بـ”القوة الناعمة”، وأنها أحد أوجه “القوة الذكية” المغربية، إذ لا تتأسس على الهيمنة أو الإكراه، بل على تقاسم الرأسمال الرمزي والديني المشترك.
وشدد عطيفي، في مداخلته المعنونة ب”الدبلوماسية الدينية المغربية في فضاء الساحل: أداة ناعمة لتعزيز الاستقرار الإقليمي”، بأن قراءة الدبلوماسية الدينية المغربية في ضوء المبادرة الأطلسية تُظهر كيف يُعيد المغرب توطين دوره الإقليمي ضمن منطق القوة الذكية، التي تدمج بين الرأسمال الرمزي والقدرة المؤسسية، وتسعى إلى إعادة بناء المجال الجيوثقافي الأطلسي الإفريقي على أسس نابعة من داخل الهويات الإفريقية نفسها، وليس مفروضة من الخارج.
وأكد في ذات السياق، أنه من الضروري التمييز بين الدبلوماسية الدينية كأداة استراتيجية ناعمة، وبين التبشير الديني أو التصدير الإيديولوجي، باعتبارهما مفهومان ارتبطا إما بالممارسات الغربية ذات الخلفية الكنسية، أو ببعض القوى الإسلامية التي سعت إلى تعميم أنماط تدينها في الخارج لأغراض سياسية، حيث النموذج المغربي لا يقوم على فرض النموذج، ولا تستهدف تحقيق مكاسب مذهبية، فضلا عن اعتماده على مؤسسات رسمية ذات شرعية وطنية ودولية.
وأبرز ذات المتحدث، أن رهان المغرب في الساحل يتجاوز “التصدير الديني”، ليتحول إلى مشروع استراتيجي للنفوذ الإيجابي والمستدام، من خلال دمج الدين، والتنمية، والتكوين، في شبكة متكاملة من العلاقات الروحية والاجتماعية والثقافية. وبهذا، تصبح الدبلوماسية الدينية المغربية تجسيدًا فعليًا للقوة الناعمة الذكية، القادرة على التأثير دون تصادم، والانتشار دون هيمنة.
واختتمت الندوة بمداخلة تحليلية للدكتور منار السليمي، الذي وضع المبادرة في إطار إعادة تنظيم الفضاء الإقليمي للساحل، من خلال فهم دينامياتها انطلاقاً من حقل العلاقات الدولية. واعتبر السليمي أن مبادرة الأطلسي تمثل محاولة لبناء “إفريقيا أطلسية” جديدة عبر المغرب، مضيفاً أن مبادرات سابقة، مثل جعل الدار البيضاء عاصمة مالية للقارة، تندرج في السياق نفسه. كما دعا إلى مقاربة المبادرة من زاوية أنثروبولوجية، من خلال امتدادات الأولياء المغاربة في إفريقيا، وما تعكسه من تداخل ثقافي وروحي عميق بين المغرب وعمقه الإفريقي. وفي تطرقه لملف الصحراء، أوضح أن المغرب سبق أن مدّ يده للجزائر قبل إطلاق المبادرة دون جدوى، وأن جوهر النزاع يكمن في الأهمية الجيوستراتيجية للمحيط الأطلسي، محذراً من تهور بعض الأطراف الإقليمية ومحاولاتها الدفع نحو المواجهة.
هكذا، شكل المنتدى فضاءً خصباً لتقاطع زوايا النظر السياسية والاقتصادية والدينية والثقافية حول المبادرة المغربية في الساحل والأطلسي، وأبرز الرهانات الكبرى التي تواجهها، في ظل تطورات جيوسياسية متسارعة، تؤكد أن مستقبل إفريقيا لا يمكن تصوره دون الفاعلية المتنامية للمغرب في الفضاءات الإقليمية والبحرية المجاورة.
