
بقلم الدكتور عطيفي: صنصال بوعلام… حين يُسجن التاريخ وتصمت الحقوق

توفيق عطيفي – باحث في القانون العام والعلوم السياسية
من زاوية علم السياسة، تظل العلاقة بين الحق في حرية التعبير وبين هندسة السلطة للذاكرة الجماعية علاقة شائكة، حيث تُستعمل القوانين والتأويلات الرسمية للتاريخ أداة ضبط وتحكّم في المجال العمومي.
ولعلّ الحكم الأخير الصادر عن محكمة الجنح بالدار البيضاء الجزائرية بسجن الكاتب والمفكّر الفرنسي – الجزائري صنصال بوعلام خمس سنوات نافذة، وتغريمه نصف مليون دينار، يقدّم نموذجًا صارخًا لهذا التوظيف السلطوي للتاريخ، ويكشف في الآن نفسه ازدواجية المعايير الأخلاقية للمنظومة الحقوقية الدولية.
المثير في هذه القضية ليس فقط قسوة العقوبة على رجل في السادسة والسبعين لم يرتكب “جريمة” سوى أنّه قال حقيقة موثّقة عن اقتطاع أجزاء من أراضي المغرب أثناء الحقبة الكولونيالية وضمّها للجزائر الفرنسية، بل الصمت المدويّ للمنظمات التي نصّبت نفسها حارسًا عالميًا لحرية التعبير والحقوق الإنسانية.
أين اختفت هيومن رايتس ووتش، وصحافيون بلا حدود، ومنظمة العفو الدولية، والمفوضية السامية لحقوق الإنسان، وغيرها من المنصّات التي دأبت على استصدار تقارير مطوّلة عند كل حادثة بسيطة فوق التراب المغربي، بل وتستثمرها سياسيًا وإعلاميًا لضرب استقرار المغرب ومؤسساته؟
لكن الغرابة تزول إذا ما تذكّرنا أن الجزائر راكمت سجلًا أسودَ وطويلًا في التنكيل بالمثقفين والكتاب والصحافيين. فمنذ عقود، كان قمع الرأي الحر جزءًا بنيويًا من هندسةالنظام السياسي هناك، بدءًا من تصفية رموز الصحافة المستقلة في سنوات الدم، مرورًا بالتضييق على المدونين والمراسلين، وصولًا إلى الأحكام الجائرة بحقّ مثقفين لم يحملوا سوى قلم.
تقارير عديدة – وإن تجاهلتها بعضالمنظمات حين تقتضي المصالح – وثّقت الاعتقالات التعسفية بحق الصحفي خالد درارني الذي حكم عليه بالسجن ثلاث سنوات في أغسطس 2020 فقط لأنه غطّى تظاهرات الحراك الشعبي، والكاتب عبد الرزاق مقري الذي تعرّض لحملات تشهير وتحقيقات بسبب آرائه النقدية.
وفي 2019، اعتُقل الصحافي سعيد بودور بسبب مقالات استقصائية حول الفساد.
أما الصحفي إحسان القاضي، فاعتقل في ديسمبر 2022 وأدين في أبريل 2023 بالسجن خمس سنوات بتهم “تلقي تمويل أجنبي”، وهي تهمة شائعة لتكميم الأفواه.
ولا ننسى الناشط حكيم عدّاد، الذي تعرّض منذ 2018 لملاحقات مستمرة بسبب نشاطه الحقوقي. بل حتى في 2021، تم حجب العشرات من المواقع المستقلة كـ”راديو أم” و”مغرب إيمرجان” وإغلاقها دون قرارات قضائية واضحة.
إنّ هذه القضية تأتي امتدادًا لهذا النسق السلطوي، الذي لم يتورع عن إسكات كل صوت حرّ ولو كان طاعنًا في السن، يحمل من التجارب الفكرية والأخلاقية ما يرفع من شأن الأمة الجزائرية بدل أن يضرّها.
سجن صنصال هو رسالة ترهيب موجّهة إلى كل من تسوّل له نفسه مساءلة السرديات الرسمية أو التنقيب في الذاكرة المشتركة لشمال إفريقيا.
يا للغرابة أيضًا: أين هي الهيئات الحقوقية الفرنسية؟ لماذا لم تتحرّك لا مؤسساتها الحقوقية والإعلامية للدفاع عن كاتب يحمل جنسيتها؟ أم أنّ صنصال بوعلام مواطن من “الدرجة الثانية”، لا يحظى بنفس المكانة التي يُمنحها الإعلام الفرنسي والدوائر الباريسية لشخصيات أقلّ قيمة فكرية وإنسانية حينما تتعرّض لمضايقات في دول أخرى؟
إنّ محنة المفكّر صنصال تطرح سؤالًا أخلاقيًا عميقًا: هل صارت حرية التعبير امتيازًا جغرافيًا يُمنح ويُسحب وفق حسابات النفوذ والتحالفات؟ وهل تحوّلت بعض المنظمات الحقوقية إلى أذرع اعلامية تتحرّك كلما اقتضت مصلحة قوى معيّنة بما فيها قوى الضغط المناصرة للشذوذ الجنسي، وتصمت حين يُعتدى على حرية التفكيرفي فضاءات أخرى؟
ولعلّ القول المأثور لابن خلدون يلخّص هذه المفارقة: “الحق لا يُقاس بكثرة الساكتين عنه.” فمهما صمتت المنظمات واختبأت وراء تقاريرها المسيسة، يظلّ اعتقال كاتب لأفكاره وصمة عار على جبين من يتغنّى بالمواثيق الحقوقية وهو يضرب بها عرض الحائط متى شاء.
إنّ قضية صنصال بوعلام لا تختبر فقط مصداقية العدالة الجزائرية، بل تضع أمامنا المرآة القاسية لسجل أسود من انتهاكات حرية التعبير هناك، ولزيف خطاب حقوقي عالمي لم يعد مقنعًا في عيون شعوبنا.
إنها فضيحة أخلاقية، وسياسية، وتاريخية، تجعلنا نعيد التفكير في جوهر حياد تلك المؤسسات التي تدّعي الدفاع عن الحرية بينما تصمت عن سجن الكلمة حين لاتناسب مصالحها.
