أراء | الأحد 4 يونيو 2017 - 14:05

مغامرات سايس بيكو الجديدة: تحريض الجنوب على الشمال!

  • Whatsapp

د. مصــطفى غَــلْمَـان *
في ما يشبه قراءة لسوسيولوجيا الخطاب السياسي في الراهن التونسي علق الروائي والكاتب حسونة المصباحي عن حال بلاده في تدوينة على صفحته بالفايسبوك قائلا:” الفكر القومي عندنا في تونس يتلخص في ما يلي : تحريض الجنوب على الشمال..”.
إنه تقدير فكري يختصر الواجهة المنفلتة التي تعيشها الخضراء في ظل التشابك الصعب بين طريقين أو أكثر تحكمهما أيديولوجيات وأفكار وشنآن تاريخي وتصادمات عقائدية وسياسية لم تلتئم بعد مرور ست سنوات على ثورة الياسمين، كانت فيها المواجهة بالعنف والتعتيم الإعلامي وبروباجندا الأحزاب هي الحاضرة بقوة في زخم غضب شعبي احتجاجي لا ينضب.
وكأني بالكاتب حسونة يسيج حقيقة وصفية واحدة مشابهة تماما لنفس المقام التونسي، لا يكاد يخرج المغرب عن استثنائه، إلا في الهوامش وليس الحيثيات.
إذا كانت القومية في تونس تعيش على التحريض المناطقي وزرع المقالب بين الفئات الاجتماعية وتهميش المجالية، فإن الوطنية المغربية تسحل كل جغرافياتها إلى نهاية البحر، بالعودة من جديد لأكل أطرافها كما لو خرجت توا من أفواه حيتان المحيط الأطلسي ودلفت باهتة ومجردة من كل هوية نحو الصحراء المغربية.
لسوء حظ الحكومات العربية والمغرب واحد منها أن كتابة التاريخ وتوجيهه لا يعود بالنفع على الدولة، إذا لم يتشبع بإواليات التعاقد الاجتماعي والاقتدار في حسم نمط الحكم وضبط العلاقة بين القاعدة الشعبية وثقافة التدبير المؤسساتي.
ولو كان الحاكمون جديرون بالعبرة والتاريخ لما تصيدتهم عثرات الكبرياء وصم الآذان والصد عن إحقاق الحق ونشر العدل وصون كرامة المواطنين.
التأبيد النظري لمعنى المغرب النافع من عدمه هو تقطيع للمآلات الكبرى التي يقوم عليها هذا الإحساس المجحف للنبذ والإقصاء، ليس فقط بشكل يخل بالعلاقات المجالية وتفاعلاتها مع الضرورات المشروعة للحياة والبحث عن التنمية. بل أيضا التدبير الفوقي للعلامات والقطائع التي تقوم عليها هذه التنمية، من تعليم وصحة وخدمات اجتماعية وتشغيل وبحث علمي …إلخ.
من ثمة يكون التحريض مسلكا لتقطيع الأواصر الجغرافية وتحديدها وتمكينها من فرض قوتها الرمزية ككيان يزعم الاستقلال وعدم التبعية.
حدث الأمر ثلاث مرات في مغرب ما قبل الاستقلال، ولا تزال تبعاته تجثم أنفاسنا اليوم، رغم تبدلات مفاهيم الجغرافيات الإقليمية والدولية واندحار نظريات القطبية الأيديولوجية وسقوط جدار برلين ونشوء اقتصاديات سياسية كبرى.
الأخطر أننا نقع في البئر بنفس الوضعية التي تعيق طبيعة تنفسنا في قاع مليء بالأفاعي والقوارض والسموم دون الاستعادة البيولوجية لبوصلة آيلة للتعتيم وسوء التقدير وتكوير الأخطاء ومداهنة الزمن؟
إذا كانت صياغة نظرية الحكم والسياسة تقوم على الفعاليات الاقتصادية والمكانة الجيوبوليتيكية التي تتمتع بها سلطة الحكم وطبيعة الأوضاع السياسية والاجتماعية التي تعيشها، فإن النفاذ إلى المقدرات الظرفية لكل هذه الوظائف ينسجم تماما مع الاندماج الكلي للمنظومة المناطقية المجالية، باعتبارها نسيجا متعددا للوحدة وليس التقسيم، الوفرة وليس الخصاص، التوازن والإنصاف وليس الاختلال والإجحاف.
وعندما كانت سرعة تأسيس رؤية جيواستراتيجية لتحويل أخطاء التاريخ إلى فضاء للتنظيم الإداري وانفتاح أوراش البناء على كل السياقات الناجعة والمحددة بمعيارية دقيقة وهادفة، فإن التأصيل للتقاليد الثقافية الجديدة بأبعاد تاريخية موثقة وجديرة بالتربية والسلوك لن يجد صعوبة في تحويل الأنظار إلى المستقبل وإلى إبداع قيم وطنية يكون فيها الشباب رافعة التنمية وعصبها النافذ.
لقد استغلت الامبريالية الاستعمارية جزءا كبيرا من مجالين كبيرين من مجالات العلوم الإنسانية هما التاريخ والأنثروبولوجيا بغية فهم ثقافتنا وهويتنا وثرواتنا ونفسيتنا من أجل ترسيخ نظريات التفتيت الجغرافي والعقائدي والثقافي، وكانت من أقذر نتائج هذا الاستغلال الوحشي اتفاقيات سايكس بيكو وميدروس ووعد بلفور ومعاهدة لندن والنظام العالمي الجديد، وغيرها من الاتفاقيات السرية التي اكتوت بنيرانها أقطارالعالم العربي عامة والشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحديدا.
وكان لهذا التكالب الإمبريالي مع ضعف الأنظمة العربية وتمسحها وطاعتها لشروط وإملاءات القوى المستكبرة نتائج وخيمة وتبعات فجائعية على مستويات تحطيم القدرات الذاتية للجغرافيات المتداعية وقصورها في التعاطي مع المستجدات العصرية فكرا وتقنيات وأبحاث واستراتيجيات وصناعة إنسان. واتسعت الهوة بين العالمين حتى أضحت بلغة الزمنية تكريسا لحجم خلاف اتخذ أبعادا حضارية وثقافية ودينية وعصبية عميقة. وتوارى منطق التعايش وحوار الأديان والثقافات إلى ما دونه من الاستعمارات بعيدة التداول كالتجسس واختراق المنظومات الأمنية وغزو المجالات المعلوماتية وابتكار أشكال جديدة للسيطرة الرقمية الدولية وتجسيد ذلك على مستوى القدرات العسكرية والدفاعية.
وللأسف الشديد ظلت التراكمات إياها ضربا من الإعاقة الحضارية ووسما صيروريا للبؤس في كل مناحي الحكامة وتدبير شؤون التنمية والإنسان.
وفي جانب صميم من هذه التداعيات بات الفكر العربي شريدا ومغيبا عن قرارات العالم، وعن طبيعة وجوده وتفاعله مع محيطه. فكيف يقوم من جديد ويمحو صورته النشاز وشخصيته المهلهلة الشامتة؟
صحيح أن عوامل كثيرة اجتمعت على تكريس نظريات التقطيع والتقسيم في بدهياتنا النفسية والفكرية والثقافية، منها على وجه الخصوص قابليتنا وتخلفنا عن المواجهة. بيد أن التحريض المتآمر على الوحدة أضحى يؤرق الأنظمة ويهدد كياناتها الهشة. ليس بسبب التفاوتات الاجتماعية وتغول أقلية الكومبرادورية على ثروات الشعب فقط، ولكن أيضا لعدم قدرة الجنوب على فهم الاندماج والوحدة ، وتشكيكات الشمال في جدوى المصالحة مع التاريخ.

– إعلامي وباحث من مراكش

[email protected] *

https://www.facebook.com/ghalmane.mustapha