منوعة | الأحد 6 مايو 2018 - 13:59

قصة إفلاس دولة كانت في الماضي واحدة من أغنى دول العالم

  • Whatsapp

في السنوات الـ43 التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الأولى في عام 1914، نما الناتج المحلي الإجمالي للأرجنتين بمعدل سنوي قدره 6%، وهو أسرع معدل نمو في العالم خلال ذلك الوقت.
كانت البلاد مغناطيسًا للمهاجرين الأوروبيين، الذين توافدوا إليها من كافة أنحاء القارة العجوز بحثا عن أي عمل في أراضي منطقة البامبا الخصبة، حيث كان النشاط الزراعي والحيواني يدفع التوسع الاقتصادي للأرجنتين. في عام 1914، كان نصف سكان العاصمة بوينس آيرس مولودين في الخارج. حينها كانت الأرجنتين هي أرض الفرص في العالم.
في ذلك الوقت، احتلت البلاد المرتبة العاشرة في قائمة أغنى الاقتصادات في العالم، بعد دول مثل أستراليا والولايات المتحدة وبريطانيا، ولكنها كانت تسبق كلا من فرنسا وألمانيا وإيطاليا. كان متوسط دخل الفرد يعادل 92% من متوسط دخل الفرد لدى الاقتصادات الـ16 الأغنى في العالم. كان الأرجنتينيون هم الأكثر ثراء بين الأمريكيين اللاتينيين.
مرت الأرجنتين بالكثير منذ ذلك الحين، وشهدت حقبا سادها تارة ركود اقتصادي مرعب، وتارة أخرى اضطرابات سياسية مفزعة. ولكننا في هذا التقرير سنركز على ما حدث خلال الربع الأخير من القرن العشرين، وسنستعرض الدور الذي لعبته القيادة السياسية للبلاد من جهة وصندوق النقد الدولي من جهة أخرى، في تعثر الأرجنتين عن سداد ديونها السيادية أكثر من مرة، لتصبح فريسة لصناديق التحوط الأمريكية.
فساد الجنرالات
– أسس الانقلاب العسكري الذي قاده “خورخي فيديلا” في عام 1976 ضد رئيسة الجمهورية الأرجنتينية “إيزابيل بيرون” نظام الحكم الاستبدادي، مارس أبشع أساليب القهر والإرهاب. كان الرجل مسؤولا عن اختفاء 30 ألف معارض خلال الفترة بين عامي 1976 و1978.
– حمل “فيديلا” على عاتقه مهمة تنفيذ برنامج اقتصادي مبني على تصورات الليبرالية الحديثة، رغم اعتراض أغلبية الشعب الأرجنتيني على هذا البرنامج. منذ الخمسينيات وتدور السياسة الاقتصادية والمالية للبلاد في فلك صندوق النقد الدولي.
– بالتعاون مع مختلف الحكومات التي تولت إدارة شؤون البلاد خلال الفترة الممتدة بين عامي 1956 و1999 أبرم الصندوق 19 اتفاقية، وفي مقابل القروض التي منحها للأرجنتين، حصل الصندوق على حق ممارسة تأثير أساسي في تطوير الهيكل الاجتماعي والاقتصادي للبلاد.
– لكي تصبح البلاد أكثر جاذبية لرأس المال الأجنبي، قام “فيديلا” بتحرير الاقتصاد والتجارة من توجيهات الدولة، والقطاع المالي من القيود الحكومية، وخصخص الكثير من مشاريع الحكومية، وقام بتخفيض الأجور، وأصدر قرارا حكوميا يجرم الإضراب عن العمل.
– رفع معدلات الفائدة بغرض جذب المستثمرين الدوليين، أما الهدف من إلغاء القيود المنظمة للنشاط التجاري فهو تسهيل استيراد البضائع الأجنبية، لسوء حظ الأرجنتينيين لم تفلت هذ الفرصة من الشركات والبنوك الأجنبية والمضاربين، والذين سرعان ما تكاتفوا مع قيادة الجيش الأرجنتيني، وبدأوا يحصدون منافع الفرص الجديدة معا.
– بعد أن أجبرت الاحتجاجات الشعبية العامة “فيديلا” على تقديم استقالته في عام 1983، كان الكثير من جنرالات الجيش قد تحولوا إلى رجال أعمال وأصبحوا من أصحاب الملايين، بحسب ما ذكره “إرنست وولف” في كتابه “صندوق النقد الدولي قوة عالمية: وقائع الغارة”.
– خلال الأعوام السبعة التي قضاها “فيديلا” في السلطة، انخفضت حصة الأجور من الناتج المحلي الإجمالي من 43% إلى 22%، كما تراجع الإنتاج الصناعي بنسبة تقترب من 40%، وارتفعت الديون الخارجية للبلاد من نحو 8 مليارات دولار إلى أكثر من 43 مليار دولار.
“نصب واحتيال على الأرجنتين”
– كانت مهمة رئيس البلاد الجديد “راؤول ألفونسين” صعبة. فقد تولى قيادة دولة فقدت تقريبًا قطاعها الصناعي، وكان ملزما بمحاربة تضخم خارج عن نطاق السيطرة. وفي سعيه للسيطرة على مشاكل البلاد الاقتصادية، تبنى برامج وضعها صندوق النقد الدولي، وذلك رغم المعارضة الشعبية العارمة للصندوق.
– حاول “ألفونسين” أن يتحايل على الصندوق إرضاءً للجماهير، ولكن الصندوق لم يعجبه الوضع وعاقب البلاد. وتنفيذا لتوصياته جمّد “ألفونسين” الأجور والأسعار لفترة من الزمن، ولكنه في المقابل لم ينفذ كافة الإجراءات التي كان مطالبا بتنفيذها. على سبيل المثال، ماطل في تسريح الموظفين الحكوميين بالعدد المطلوب، وأحجم عن خصخصة ثلاثة مشاريع حكومية بسبب اندلاع احتجاجات شعبية.
– اعتبر الصندوق تصرفات “ألفونسين” سلوكا مترددا، وقام بالتعاون مع البنوك الغربية بتعليق منح البلاد قروضا جديدة، وهو ما أجبر الرجل على التقدم باستقالته. اعتقد الصندوق أن خليفته سيكون أكثر طاعة والتزاما بتنفيذ توصياتهم.
– للأسف لم يخب ظنهم. الرئيس الجديد للبلاد “كارلوس منعم” تكاتف مع الصندوق وأخضع الأرجنتين لـ”برنامج الصدمة”، البرنامج سيئ السمعة الذي نفذ في تشيلي. تم إلغاء كافة اللوائح التنظيمية التي تحمي القطاعين التجاري والزراعي، وخصخصة القطاع المصرفي بالكامل تقريبا، وبيع مشاريع حكومية مثل شركة الخطوط الجوية الأرجنتينية وشركة البترول (YPF) إلى مستثمرين أجانب بأبخس الأسعار.
– اشتمل برنامج الصندوق، على شروط كارثية من بينها زيادة قيمة الضريبة المضافة بنسبة بلغت 50% وربط سعر صرف البيزو بالدولار الأمريكي، وإجبار البنك المركزي للبلاد على تغطية العملة الأرجنتينية باحتياطيات دولارية بنسبة واحد إلى واحد أي تغطية نسبتها 100%.
– كما حدث في مئات الحالات المشابهة، قامت المؤسسات المالية الدولية باقتراض الأموال من الولايات المتحدة بأسعار فائدة متدنية، قبل أن تقوم بإعادة إقراضها إلى الأرجنتين مقابل أسعار أعلى. تخيل أن هذا الأسلوب دفع “ميلتون فريدمان” المنظر الرئيسي لبرنامج الصدمة إلى وصف عملية التمويل هذه بأنها “نصب واحتيال على الأرجنتين”.
– ربط البيزو الأرجنتيني بالدولار منح المستثرين الأجانب الثقة بأن استثماراتهم مأمونة، وغرقت الأرجنتين في بحر من الديون. ارتفعت الأسعار وتدهورت قوة قطاع التصدير على المنافسة العالمية، وتراجع إنتاج القطاع الزراعي، ولم يعد قادرا على منافسة الشركات الأجنبية.
تدمير هيكلي للاقتصاد
– سيطرة رأس المال الأجنبي على الاقتصاد الأرجنتيني جعلت البلاد عرضة لصدمات ناشئة عن تطورات دولية غير متوقعة. على سبيل المثال، ألقت الأزمة التي تعرض لها البيزو المكسيكي في نهاية عام 1994 ومطلع 1995 بظلها على الأرجنتين أيضا.
– قام الكثير من المستثمرين الأجانب بسحب رؤوس أموالهم من الأرجنتين، وهو ما أدى إلى تراجع النمو الاقتصادي للبلاد إلى ما دون الصفر أو ( 0.1 – ). ومن جانبها أصرت البنوك الأجنبية على استرجاع قروضها، معرضة آلاف المشاريع إلى الإفلاس. ووسط هذا الوضع المضطرب، انهارت العديد من البنوك التجارية الصغيرة في البلاد، وفي غضون عدة أسابيع وصل معدل البطالة إلى 18%.
– باعت الأرجنتين 40% من الشركات المملوكة للدولة و90% من القطاع المصرفي، وحصلت في المقابل على إيرادات إجمالية بلغت حوالي 49 مليار دولار. وحتى هذه المليارات لم تنفق على الشعب، بل تم إنفاقها على خدمة ديون البلاد للمستثمرين الأجانب.
– الأسوأ من ذلك أن المستثمرين الأجانب اعتادوا تحت سمع وبصر صندوق النقد على مطالبة المركزي الأرجنتيني بتحويل أرباحهم المحققة بالبيزو إلى ما يعادلها من العملة الصعبة، قبل أن يقوموا بتحويل هذه الأموال إلى حساباتهم البنكية في أمريكا الشمالية وأوروبا، وهو ما أدى إلى استنزاف الاحتياطي الأجنبي للأرجنتين.
– في أكتوبر/تشرين الأول من عام 1999، تولى ” فرناندو دي لاروا” رئاسة البلاد خلفا لـ”كارولوس منعم” الذي ترك الأرجنتين تعاني من ركود اقتصادي خانق ومثقلة بدين عام قدره 114 مليار دولار، وفقراء يشكلون 37% من سكان البلاد.
– مرة أخرى قفز صنوق النقد الدولي إلى الواجهة عارضا استعداده لمنح البلاد قرض قيمته 7.2 مليار دولار، ولكن كالعادة هناك شروط. ربط الصندوق هذا القرض بضرورة خفض عجز الموازنة الحكومية من 7.1 مليار دولار إلى 4.7 مليار دولار في غضون عام واحد.
– هذا يعني تقليص الإنفاق العام بنحو 2.4 مليار دولار، وذلك سيحدث بشكل رئيسي من خلال خفض الإنفاق الحكومي على الرعاية الاجتماعية. رغم أن 14 مليونا من أصل 36 مليون أرجنتيني أصبحوا يعيشون تحت خط الفقر في ذلك الوقت، أصر الصندوق على هذا البند بالتحديد (الرعاية الاجتماعية).
فقر وعوز
– في أبريل/نيسان 2000، عندما انتشر خبر يفيد بأن الحكومة تنوي تقليص الإنفاق سنويا بنحو 938 مليون دولار، وأن ثلث هذا المبلغ سيأتي على حساب الأجور والمعاشات التقاعدية الخاصة بموظفي الدولة، زاد سخط المواطنين وتظاهر 40 ألفا منهم أمام القصر الجمهوري معترضين على زيارة فريق صندوق النقد لبلادهم.
– توصيات الصندوق لم تحول دون ارتفاع ديون البلاد في عام 2000 إلى 147 مليار دولار. ولكن للمرة العاشرة يتدخل الصندوق ويعقد اتفاقا مع الحكومة الأرجنتنية تحصل بموجبه الأخيرة على حزمة مساعدات تبلغ قيمتها 39.7 مليار دولار. هل تستطيع تخمين الشروط؟ تحرير القطاع الصحي وإلغاء القيود المنظمة لقطاعي الطاقة والاتصالات، والمضي قدما في خصخصة المزيد من أصول الدولة.
– بحلول نهاية صيف 2001، انخفض الإنتاج بنحو 25%، واضطرت آلاف المشاريع لتصفية أعمالها، وأصبح سدس العاملين يتسكعون في الشوارع والطرقات. وبالإضافة إلى الفوائد العادية أجبرت البلاد على دفع علاوة مخاطر قدرها 40% لحاملي سنداتها الدولارية، كما فقد البنك المركزي 18 مليار دولار، أي نصف إجمالي ما يمتلكه من ودائع ادخارية.
– في ديسمبر كانون الأول عام 2001، غادر رئيس البلاد “فرناندو دي لاروا” مع وزير اقتصاده القصر الرئاسي على متن طائرة مروحية بعد أن احتشد الآلاف من المتظاهرين حول القصر احتجاجا على السياسات الاقتصادية للحكومة.
– في الثالث والعشرين من الشهر نفسه أعلن الرئيس المؤقت للبلاد “أدولفو روديجت سا” للعالم أن الأرجنتين دولة مفلسة، وأن البلاد أنفقت كامل احتياطياتها من النقد الأجنبي، وتعاني من أكبر عملية إفلاس مرت بها أي دولة في التاريخ، بعد أن تعثرت البلاد في سداد دين قدره 132 مليار دولار.
– علق صندوق النقد دفعة كان من المفترض أن تستلمها البلاد في ديسمبر/كانون الأول، وفشلت توسلات وزير الاقتصاد الجديد لرئيس الصندوق في فبراير/شباط 2002 في إقناع الأخير بالتراجع عن تعليق الدفعة المستحقة من القرض، وعاد إلى بلاده خاوي اليدين.
– خلال ثلاثة أشهر، خسر 200 ألف عامل آخرين وظائفهم، وانخفض مستوى الإنتاج الصناعي مرة أخرى بنحو 20%، وأصبحت خدمة الديون تشكل وحدها 17% من موازنة البلاد، وارتفع معدل البطالة إلى 23%، وانتشرت في كافة أنحاء البلاد أمراض ذات صلة بالفقر، مثل سوء التغذية وفقر الدم.
– الأرجنتين، الدولة التي كانت في يوم من الأيام أكثر دول أمريكا الجنوبية ازدهارا ورخاء، أضحت مأوى للفقراء وملجأ للمعوزين. أما صندوق النقد الدولي فمن جانبه لم يقصر واعتذر لاحقا للأرجنتينيين الذين صار نصفهم يعيش في كابوس اجتماعي واقتصادي.
اعتذار واجب!
– في التاسع والعشرين من يوليو/تموز 2004، اعترف صندوق النقد الدولي بأن أخطاءه ساعدت في غرق الأرجنتين وإفلاسها خلال أزمة العملة التي شلت اقتصاد البلاد قبل ثلاث سنوات. وأضاف الصندوق في التقرير الصادر عن مكتب التقييم المستقل التابع له، أنه يعتذر عن عدم منعه الحكومة الأرجنتينية من اتباع سياسات اقتصادية سيئة.
– لكن حتى في اعتذاره يلقي الصندوق باللوم على الحكومة الأرجنتينية – التي لا يمكن إنكار دورها في ما وصلت إليه البلاد – وهذا نفس ما فعله الناطق الرسمي باسم الصندوق في ديسمبر 2001 حين صرح تزامنا مع اندلاع الاحتجاجات قائلا “إن البرنامج الاقتصادي للأرجنتين تمت صياغته من قبل الحكومة بهدف القضاء على عجز الموازنة، كما أنه تم إقراره من قبل البرلمان”.
– الطريف هو أن نفس المؤسسة هي التي كانت تواصل الإشادة بالأرجنتين وسط كل التدهور الذي كانت تعاني منه في أواخر التسعينيات، واصفة إياها بـ”التلميذ النموذجي” والمثال الساطع على فاعلية برامج التكيف الهيكلي التي ترعاها.