أراء | الخميس 9 أبريل 2020 - 16:13

الحرية في زمن الوباء

  • Whatsapp

ذ. العربي بوعــــودة

 محام بهيئة المحامين بمراكش وطالب باحث بسلك الدكتوراه

أن تفكر في الكتابة حول موضوع الحرية هو في حد ذاته ممارسة لحرية الفكر التي هي أساس الوجود وفق لما أسس له الفيلسوف “ديكارت”[1] في ما سمي بالكوجيطو الديكارتي”أما أفكر إذا أنا موجود، وأن تأخذ قلما وورقة وأنت تسعى إلى الكتابة في موضوع ما، فهذا تعبير عن تطبيق مادي لمفهوم الحرية الذي يرتبط بالممارسة، وأن تخاطب جمهورا من القراء باختلاف ميولاتهم الفكرية و مشاربهم العلمية مستحضرا السياقات التي يأتي فيها فعل الكتابة، هو في الحقيقة تمرين مهم لفهم الحرية و القيود التي تحيط بالمفهوم، وأن تطرح أسئلة حارقة أو مثيرة للجدل بعيدا عن أية خلفيات سياسية أو مذهبية أو دينية، فهو تجسيد للحق في الاختلاف الفكري الذي لا يفسد للود قضية كما يقال، مع أن الاختلاف بهذا المعنى حق طبيعي يميز الإنسان عن الحيوان، لذلك فالبحث في تيمة الحرية في زمن انشغلنا فيه بالحق في الأمن والحق في الحياة أمر له ما يبرره من الناحية العلمية، انطلاقا من ممارستنا الواعية للحرية المرتبطة في الوقت الراهن بالالتزام بإجراءات الحجر الصحي، وعندما نتحدث عن الحرية في زمن انتشار وباء “كورونا المستجد”نقصد طريقة ممارساتنا لحرياتنا الفردية والجماعية التي تعكس ذواتنا الحرة وفق ما ذهب إليه الفيلسوف “ايمانويل كانت”[2] الذي اعتبر ان لا أحد يستطيع أن يلزمك بأن تتعامل وفق طريقة معينة أو أن تفكر بنفس الطريقة التي يريدها هو، ولكنه يؤمن بأن كل شخص يستطيع البحث عن سعادته وفرحه بالطريقة التي يراها مناسبة.

فالحديث عن الحرية في السياق المعلن عنه أعلاه المرتبط بإعلان حالة الطوارئ الصحية والبحث فيه من زاوية فلسفية يستدعي بالضرورة الانفتاح على أهم النظريات والأدبيات الفلسفية تناولت الموضوع وكيف تطور مفهوم الحرية عبر التاريخ الفلسفي السياسي في الكثير من الأنظمة السياسية.

فالحرية بما هي تعبير مناقض للعبودية، والحر من الناس وفق المتداول هو أشرفهم وسيدهم، فهي المكانة العامة التي قررها الشارع للأفراد على السواء تمكينا لهم من التصرف على خيرة من أمرهم دون الإضرار بالغير كما ثبت عن الفقيه “فتحي محمد الدريني”[3]، إلا أن الحرية ليست مطلقة كما يتوهم البعض بل لها قيود تزيد من عمق مفهوم الحرية وتجعلها عقلانية إلى حدود معينة، كما أن الحرية في تصور القانون الدولي هي حق طبيعي من أهم حقوق الإنسان التي ترتبط بوجوده أصلا كحرية اتخاذ القرارات الشخصية وحرية التفكير والرأي وكافة التصرفات التي لا تتعدى على حريات الغير أو تتجاوزها بشكل من الأشكال.

فما نعيشه و نلاحظه اليوم في مجتمعنا من ممارسات ارتبطت بالحجر الصحي هو موضوعات من بين أخرى سبق للكثير من النظريات الفلسفية أن عالجته بشيء من التفصيل وما تطلعنا عليه الكثير من السجالات الفلسفية التي جاءت في كتب فلاسفة كبار ونذكر هنا على سبيل المثال فقط “أفلاطون”[4] الذي اعتبر الفلسفة في حد ذاتها قائمة على الرياضيات والهندسة.

فاستحضار الواقع المعاش والبحث في ثنايا القراءات الفلسفية عن أجوبة مقنعة له يحيلنا إلى فلسفة جون بول سارتر الذي يرى بأن لا يوجد فرق بين الوجود الإنساني والحرية، إذ الإنسان حر بطبيعته، أو بتعبير أخر الإنسان تواق إلى الحرية منذ ولادته، ومجبول أن يكون حرا، وقد يبالغ في القول بأن الحرية كيان بشري، وقد يسعفنا ذلك في محاولة فهم تأثير انتشار وباء فيروس كورونا المستجد على العلاقات الاجتماعية وداخل الأسرة الواحدة كنواة أساسية للمجتمع، و كذا أحيانا أخرى على الفرد نفسه، وقد أظهرت الأيام القليلة الماضية التي مرت كأنها شهور معدودة أن المجتمع كان مختلا من ترتيبه الهرمي، بحيث تجد ممتهني فن الغناء وبعض صناع الشهرة و”البوز”، ان لم نقل أولئك الذين يشيعون ثقافة التفاهة في أوساط المجتمع المغربي، هم الأقرب إلى التأثير وتصدروا اهتمام بعض وسائل الإعلام، وتوارت إلى الوراء بعض الفئات داخل المجتمع ولا سيما الأدباء والمفكرين والباحثين والمدافعين عن الحقوق والحريات، لكن الوباء أعاد الترتيب من جديد، فأصبح شبه اجتماع وطني على أن موظفي الصحة والأمن والجيش ورجال السلطة أبلوا البلاء الحسن بعدما كانوا محل انتقاد كبير ولمدة طويلة، وترآى للبعض ان المؤسسات المذكورة أصبحت بفعل فيروس كورونا المستجد تسترجع عافيتها وتعيد بناء الثقة التي غادرتها لمدة.

ونحن نعيش زمن الوباء وفق ما أعلنت عنه منظمة الصحة العالمية وحالة الطوارئ الصحية التي أقرتها الحكومة المغربية وألزمتنا الدخول في حجر صحي، يجعلنا نفهم كيف أن الفلاسفة وضعوا قيودا للحرية في ارتباطها بالمصلحة أو المنفعة العامة، وهذا الصراع بين حرية الفرد وحق الدولة أو الجماعة ساهم بشكل كبير في تطور الفكر السياسي، وفي هذا الصدد نورد مقولة مشهورة لفولتير وهي أن “الإنسان يصبح حرا في لحظة تمنيه لذلك، وعليه فإننا اليوم نتمنى أن نكون أحرارا بالشكل الذي يجعلنا ننتقل إلى عوالم و أمكنة أخرى، نمارس فيها هواياتنا وأن تمنينا لها هو ممارسة افتراضية لهذه الحرية وهو ما يحاول المخيال الشعبي المغربي تجسيده في بعض المقولات التي بدأت تطفو إلى السطح عبر وسائط التواصل الاجتماعي، وكانت وليدة فترة الحجر الصحي مثل” أتتذكرون يوم كنا نتجول في أكثر من شارع، أو نجتمع بالمقاهي لمشاهدة مباريات منافسة عصبة الأبطال الأوربية…، وهذا يجعلنا أمام فرضيتين، الفرضية الأولى أننا اشتقنا إلى تلك الأيام التي سبقت ظهور أول حالة إصابة بفيروس كورونا المستجد بالمغرب، وفرضية ثانية وهذه هي القريبة إلى الحقيقة وهي أن الوباء سينتهي في القريب من الأيام وان ستظل أثاره شهرا أو أكثر من الناحية الاجتماعية والنفسية وستظل كل معاناتنا من الخوف من الإصابة وحكايات المصابين المتعافين كقصص نحكيها للذكرى فقط، وفقط للاستدلال على هذه النفسية التي أصبحت تعيشها الكثير من الأسر، فقد أبدع رسام كاريكاتوري هذا الأمر بأن رسم عائلات في قفص وكتب في لافتة تدل على المكان “حديقة الإنسان” ، ورسم حيوانات تحمل كاميرات تصوير على صدورها مستغربة كيف انقلبت الآية وباتت الحيوانات تزور الإنسان وهي حرة طليقة.

انه وبغض النظر عن النظام القانوني الذي صاحب انتشار وباء كورونا المستجد في المغرب، والذي نهل من الأدبيات القانونية والفلسفية أثناء التشريع والتنزيل لسياسات عمومية صحية أساسا، ظهرت أحداث هنا وهناك من بعض المواطنين اللامبالون والمشككون أحيانا، وكأنهم يقولون نحن “رواقيين” والرواقية مذهب فلسفي يعتبر أن اللامبالاة هي الحل، ويرى أن الإنسان يستطيع أن يعيش دون رغبات وأن أصحابها مارسوا فعل التفلسف في الأروقة، وآخرون تبنوا الفلسفة الشكية بوعي أو بغير وعي، كما هو الشأن في فلسفة “ديكارت” الذي شك في نفسه كما سبق معنا عند ذكر الكوجيطو الديكارتي، وأولئك وهؤلاء شككوا في صحة انتشار الوباء كما حصل في بعض الدول الأوربية التي تأخرت كثيرا في فرض الحجر الصحي للحد من انتشار مرض كوفيد 19، واستهانوا به ومنهم من أصيبوا به، وبعضهم يرفض استعمال الكمامات الطبية الواقية من انتشار الوباء، ومنهم من يرفض أن يتسلمها من فاعلين مدنين لشكهم في أن تكون الكمامات حالة للفيروس ويفضلون البحث عنها في الصيدليات.

فالجدير بالذكر هنا أن الحرية بالوصف الذي أتينا على ذكره سلفا ينبغي أن تتم وفق ممارسة واعية  بالحق في حرية التنقل أو الذهاب والإياب ان اقتضى الأمر ذلك، في احترام تام للأنظمة القانونية ذات الصلة الرامية إلى حفظ الصحة العمومية، ومع توالي أيام الحجر الصحي أصبحنا نلاحظ ظهور بعض الهويات النفسية التي تأثرت بإجراءات الحجر الصحي لأنها لم تكن تتوقع يوما أن تقضي وقتا طويلا داخل البيت وإن كان الأمر فيه متعة خاصة،  كما ستطفو كذلك على السطح سلوكات غير طبيعية اتخذت شكل العنف الزوجي و سلوكات أخرى ستظهر بين أوساط الأطفال الذين سيثورون ضد جدول الزمن المسطر لهم كل يوم، وسيقاومون تقنية التمدرس عن بعد، وسيرتمون في حضن الكتب و المؤلفات الدراسية، وسيرغبون في الخروج أو على الأقل الصعود إلى سطوح المنازل وممارسة هواياتهم بعيد عن الوقوف طويلا أمام النوافذ وفي الشرفات، لمتابعة حركة السير والجولان في شوارع و أزقة شبه فارغة، فكيف ستستقبل الأسر هذه السلوكات في زمن الوباء؟

وغير بعيد عن أولئك المشككون واللامبالون ظهرت فئة أخرى تريد أن تتمثل قول الفيلسوف “لوكيوس أنايوس سينيكا”[5] الذي قال بأن “الشجاع هو الحر”، وهي التي تخرج يوميا وبشكل متكرر إلى الأسواق التقليدية والمحلات التجارية والمنتزهات وقد تقيم الولائم بشكل سري إن لم أبالغ، رغبة منهم في معارضة نظام قانوني يفرض الالتزام بالبيت وعدم مغادرته إلا للضرورة الملحة للحد من تفشي الوباء، إلا أن السلطة الحكومية سرعان ما تجندت للأمر لتواجه هذه الفئة من المواطنين بكثير من الجدية مستندة إلى مقولة مشهورة ل”ماترتن لوتر كينغ جونيور”[6] التي قال فيها” لا يستطيع أحد أن يمتطي ظهرك إلا إذا انحنيت له” وعنده لاحظنا رجال سلطة وشرطة تسابق الزمن لفرض الحجر الحي بشيء من الصرامة والحزم، وأحيانا يتم ذلك بقليل من التجاوز، الأمر الذي أثار غضب البعض من حماة الحقوق والحريات، معتبرين ذلك مخالفة للقانون وانتهاك لحقوق المواطنين، وقد تطور الأمر إلى المطالبة بمحاسبة من ثبت مخالفتهم للقانون بتعنيف أو تعذيب للمواطنين أثناء فترة الحجر الصحي.

وهناك فئة أخرى نادت بشدة  بتطبيق القانون بشكل صارم، لأن مخالفة المراسم المتعلقة بالتدابير الاحترازية للحد من انتشار وباء كورونا المستجد فيه تهديد للأمن الصحي العام، ودعوا إلى ممارسة الدولة للعنف الشرعي، عن طريق استعمال عناصر القوة العمومية لبعض العصي التي سلمت لهم بفعل وظيفتهم لحفظ الأمن الداخلي للبلد، وليس اللجوء إلى بعض الأساليب التقليدية في الردع كالصفع والركل والرفس، لأنها غير مقبولة إطلاقا بحكم القانون الدولي وكذا التشريعات الوطنية، كما يمكن أن تجر صاحبها إلى المسؤولية الفردية، لأنها من الناحية القانونية معاملة سيئة وحاطة من كرامة المواطن الذي خالف القانون، كما أنها تشكل صورة من صور التعذيب.

وفي الختام ننهي بفكرة جميلة للفيلسوف “ألبير كامو”[7] الذي قال بأن” الحرية هي فرصة لنكون أفضل”، ولنكون أفضل يجب أن نتعامل مع جائحة كورونا بكثير من المسؤولية، لأن انتشار الفيروس يتجاوز الحرية الشخصية للفرد إلى حرية باقي الأفراد ليعيشوا بعيدين عن الوباء في أمن صحي ونفسي جيد، وهذا أفضل ما يسعى إليه الإنسان على سطح البسيطة، كما أنه وفي سياق الكلام عن الحرية في زمن الوباء، كشف فيروس كورونا عن هشاشة بعض الكيانات الإقليمية، وفضح فكرة الاتحاد بحيث اتضح أن الدول التي تدخل تحت لواء الاتحاد الأوروبي تصرفت بشكل حر و فردي و دون الرجوع إلى الاتفاقيات التي كانت تجمعها، والتي ترجمتها في شكل معاهدات و المثال هنا لاتفاقية “.شينغن”[8] التي لم تستطع أن تجمع أعضاء الاتحاد الأوروبي لوضع استراتيجية صحية موحدة لمجابهة تفشي وباء كورونا المستجد بدل الاهتمام بالشأن الداخلي لكل دولة على حدة وعدم تقديم المساعدات اللازمة للدولة الأكثر تضررا من انتشار جائحة كوفيد 19، ونفس الشيء يقال عن اتحاد المغرب العربي الذي لم يحرك ساكنا بشأن موضوع فيروس كورونا.                                                                                                                                                               

[1] فيلسوف وعالم رياضيات وفيزيائي فرنسي، عاش ما بين(1596-1650) يلقب بأب الفلسفة، تأثر بفلسفة أفلاطون و أريسطو، من أشهر كتبه “تأملات في الفلسفة 1641 م.

[2] فيلسوف ألماني(1724-1804)، أخر الفلاسفة المؤثرين في الثقافة الأوروبية الحديثة، أشهر كتبه كتاب “نقد العقل المجرد” 1781م.

[3]  فقيه فلسطيني و أكبر علماء الشريعة في العصر الحديث(1923-2013 لقب بشاطبي عصره، من مؤلفاته المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي عام 1996.

[4]  ارستوكليس بن ارستون، فيلسوف ألماني كلاسكي، عالم رياضيات، كاتب للعديد من الحوارات الفلسفية، مؤسس أكاديمية أثينا، تلميذ لسقراط ومعلم لأرسطو، ولد عام 427 قبل الميلاد بأثينا وتوفي في مسقط رأسه عام 347 ق.م. أسس مدرسة للرياضيات والفلسفة أطلق عليها اسم الأكاديمية.

[5] فيلسوف وخطيب وكاتب مسرحي روماني، ولد في قرطبة في اسبانيا في العام 4 ق.م وتوفي عام 65 م، ينتمي إلى التيار الرواقي، مهتم بالفلسفة الفيثاغورية.

[6] زعيم أمريكي من أصول افريقية،(1929-1968) وناشط سياسي أنساني، من المطالبين بإنهاء التمييز العنصري ضد السود عام 1964م، حصل على جائزة نوبل للسلام وكان أصغر من يحوز عليها.

[7] فيلسوف وجودي وكاتب مسرحي وروائي فرنسي (1913-1960) حاصل على جائزة نوبل في الآداب عام 1957، من أشهر كتبه أسطورة سيزيف،

[8] معاهدة تهدف إلى إلغاء الرقابة على الحدود الداخلية و تعتمد سياسة التأشيرة المشتركة، وقعت عليها في 14 يونيو 1985 خمس دول وهي ألمانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا ولوكسومبرغ قبل ان تنظم إليها دول أخرى وانسحبت منها المملكة المتحدة بتاريخ 31 يناير 2020.