اخبار جهة مراكش | السبت 2 مايو 2020 - 18:26

من يصنع التشريع في المغرب؟

  • Whatsapp

بقلم: الأستاذ العربي بوعودة، 
محام بهيئة مراكش
طالب باحث بصف الدكتوراه

أثار مشروع القانون رقم 22.20 المتعلق باستعمال شبكات التواصل الاجتماعي  وشبكات البث المفتوح والشبكات المماثلة،  وما تضمنه من مقتضيات زجرية سالبة للحرية الكثير بمجرد الدعوة أو التحريض على مقاطعة منتوج أو بضاعة معينة أو التحريض على سحب الودائع من المؤسسات الائتمانية أو الترويج لخبر زائف من شأنه التشكيك في جودة أو سلامة بعض المنتجات أو بضائع معينة، الكثير من اللغط حول ظروف إنتاجه وسياقه ودور الحكومة فيه وجدواه وما الغاية من تسريبه في وقت الأزمة الوبائية؟ وهل هناك من حاجة مجتمعية له في الوقت الراهن؟ وما دور التشريع في بناء الفعل المجتمعي؟ وما دور الفاعل السياسي وأقصد الأحزاب السياسية في تسريب مسودة مشروع قانون يرهب مستعملي وسائط التواصل الاجتماعي؟.أليس لدينا برلمان رشيد أو حزب سياسي رشيد؟ لماذا نعرف التشريع السري كما نعرف الهجرة السرية والذبيحة السرية كذلك، هل التشريع فعل مؤسساتي نابع عن حراك وتدافع اجتماعي؟ لماذا لا نفكر في الشعور الجمعي في وقت الجائحة؟ أين يكمن الأمن التشريعي عندما يتم تسريب مشاريع القوانين؟

هناك شبه إجماع على أنه في ظل تعطل قنوات التواصل المؤسساتي الأخرى لم يجد المواطن المغربي شأنه شأن الكثير من شعوب العالم سوى الفضاء الأزرق كمساحة للتعبير عن مواقفه تجاه ظواهر مجتمعية كثيرة، والتعبير عن موقفه من بعض السياسات العمومية و القطاعية التي تعتمدها الحكومة المغربية في السنوات الأخيرة، إلى فوجئ بتسريب مشروع القانون رقم 22.20 الذي صادق عليه المجلس الحكومي منذ 19 مارس 2020 ، أي في عز الأزمة الصحية المرتبطة بتفشي وباء كوفيد 19، وهذا الوضع غير الصحي يسائل دور الأحزاب السياسية الممثلة في المؤسسة البرلمانية كآلة تشريعية وفقا لأحكام الفصل 70 الذي ينص على أنه”يمارس البرلمان السلطة التشريعية، يصوت البرلمان على القوانين، ويراقب عمل الحكومة، ويقيم السياسات العمومية”.

عندما تراجع فصول الدستور تجد أن الفصل 7 ينص على أنه “تعمل الأحزاب السياسية على تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم السياسي، وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية، وفي تدبير الشأن العام، وتساهم في التعبير عن إرادة الناخبين، والمشاركة في ممارسة السلطة، على أساس التعددية والتناوب، بالوسائل الديمقراطية، وفي نطاق المؤسسات الدستورية”، كما أن أعضاء البرلمان بغرفتيه يستمدون نيابتهم من الأمة، و المعارضة مكون أساسي في المجلسين، وتشارك في وظيفتي التشريع والمراقبة.

الملاحظ أن الحكومة في ما يتعلق بمشروع القانون رقم 22.20 أساءت استعمال حق خوله لها الدستور في الفصل 70  الذي نص على أنه” للقانون أن يأذن للحكومة أن تتخذ في ظرف من الزمن محدود، ولغاية معينة، بمقتضى مراسيم تدابير يختص القانون عادة باتخاذها، ويجري العمل بهذه المراسيم بمجرد نشرها. غير أنه يجب عرضها على البرلمان بقصد المصادقة، عند انتهاء الأجل الذي حدده قانون الإذن بإصدارها، ويبطل قانون الإذن إذا ما وقع حل مجلسي البرلمان أو أحدهما” و تقوم باستغلال فترة ما بين الدورتين لتمرير قوانين قد تخدم مصالح أصحاب المال والأعمال، وهم بذلك يصادقون على زواج المال بالسياسة الذي ظل لزمن طويل زواجا سريا، في غير اهتمام بالتشريع لباقي الطبقات الاجتماعية، مع العلم ان القانون يعهد إليه دستوريا بسن الحقوق والحريات الأساسية، وهو الأمر الذي يجعل خاصية العمومية والتجريد التي تخص القاعدة القانونية التي ندرسها لطلبة العلوم القانونية مجرد كلام.

المشروع موضوع المناقشة يعطي الانطباع أن المؤسسة الحزبية لم تكن تقوم بدورها في مراقبة عمل الحكومة، ويسائل دور اللجن البرلمانية، وأمام هذا الخلل في توازن السلط الثلاث، لا يمكن إلا أن نتوقع بين الفينة والأخرى صدور مشاريع قوانين تسعى إلى تقييد حرياتنا، إلا أن هذا الأمر فيه خرق سافر لكل المواثيق الدولية التي تؤسس للحق في إبداء الرأي  والتعبير وهنا نستحضر المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المؤرخ في 10/12/1948.[1] والمادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966.[2]

فمع هذا التشريع الانتقائي يحق لنا أن نعتبر الأمر محاولة يائسة للتربص بحرية المغاربة ومحاولة لتكميم أفواه كل الأحرار، كما حصل مع تمديد حالة الطوارئ الصحية عندما تنازلت المؤسسة التشريعية عن دورها في المشهد السياسي بالسماح للحكومة بتمديد حالة الطوارئ.

أعتقد أن إبداء موقف بشأن منتوج ما لا يكمن بأي حال من الأحوال أن يكون جريمة، لأن مجرد التفكير في تجريمه يجعل مستقبل حرية الرأي في كف عفريت كما يقال، سيما و أن الهيئات الحقوقية  ومنظمات المجتمع المدني بصفة عامة تسعى إلى بناء مجتمع حر، مؤمن بالحق في الاختلاف و بالتعددية الفكرية لا التعددية الحزبية. نعم إذا كان لزاما أن يقنن استعمال وسائل التواصل الاجتماعي فالأولى أن يتم تجريم إشاعة ثقافة التفاهة، لأننا نريد جيلا يمجد الثقافة لا جيلا يهرول إلى تقليد وتقديس التافهين الذين تسللوا إلى المنصات من حيث لا ندري.

عندما تحاول تحليل سياق الترويج للمرسوم تتذكر المقاطعة التي خاضها الشعب المغربي قبل سنة مضت للعديد من المنتوجات، عندما انتفض ضد الغلاء والاستغباء والاستغلال، إلا أن الحكومة ومنذ ذلك الحين وهي تسابق الزمن لإخراج قانون تكميم الأفواه إلى حيز الوجود، غير أن انتشار فيروس كورونا أجبر الحكومة على التريث في نشره لولا تسريبه بهذه الكيفية المستفزة.

إن تسريب هذا المشروع قانون كشف عن أن التشريع أحيانا لا يراعي المصلحة العامة، ويعكس سوء فهم لنظرية “فصل السلط” التي طبعت الأدبيات السياسية منذ القرن 18، سيما مع الفيلسوف مونتيسكيو[3]، والتي تجعل السلطة التشريعية مستقلة عن السلطتنين التنفيدية والقضائية، فقد تحدث مونتيسكيو في كتابه الشهير روح الشرائع” ESPRIT DES LOIS”[4] الذي كان يمثل ثمرة أبحاثه طيلة حياته، عل أن الكتاب يجب ألا يظهر إلا في دولة تتمتع بالحرية الحقة، فالحرية التي تسود بلدة من البلاد هي شرط أساسي لصدور مثل هذا الكتاب إذ هي بمثابة الأم التي تؤدي إلى نشأة هذه المؤلفات ورعايتها، ولكن كتاب روح القوانين بلا أم لأنه ألف في فرنسا التي لا تتمتع فيما يرى المؤلف بأية حرية. “فكما كان اسحق نيوتن يبحث عن القوانين التي تحكم الطبيعة، كان مونتسكيو يبحث عن القوانين التي تحكم حركة التاريخ وتسبب نهوض  أوفناء الدول.[5]

ان المتأمل للدستور المغربي لسنة 2011 يجد على  النظام الدستوري للمملكة يقوم على أساس فصل السلطات وتوازنها وتعاونها، وأن الاختيار الديمقراطي من الثوابت الراسخة، لكن الممارسة خلاف ذلك لكن الواقع لا يصادق على هذا الأمر، بل يعطى الانطباع أن السلطة التنفيدية اكتسحت مساحة مهمة من المساحة المخولة للمؤسسة التشريعية بالرغم من كل القوانين التي تكفل لها أن تكون أولى السلطات وأهمها لأن المنطلق في التنظيم يبدـأ معها. بعض الأحزاب كان بودها أن تفتح نقاشا حول الموضوع منذ تسريب بعض مواد المشروع قانون، لأن الحزب السياسي لا ينبغي أن يكون منغلقا على ذاته بل يجب أن يساهم في فتح سجال مجتمعي حول ظواهر مجتمعية طارئة لمحاولة تنطيم سلوك الأفراد، لا أن يلتزم الصمت وبعد أن تسرب المرسوم بدأ الكل يتهرب من مسؤولية ما حدث فأعلن البعض منهم أنهم سيضحون بالغالي والنفيس من أجل حرية التعبير ولا يمكنهم أن يساهموا في جريمة تشريعية مع سبق الإصرار والترصد، والتي يمكن تسميتها ب”بالإرهاب التشريعي أو التنمر التشريعي”، لأن التفكير في قمع حرية التعبير هو إعلان صراع مع مستعملي وسائل التواصل الاجتماعي، ودعوة إلى السكوت أمام كل مظاهر الاستغلال التي نعيشها اليوم، بفعل ثقافة الاستهلاك بكثرة التي زرعت في مجتمع فهم منى الحداثة من خلال استهلاك منتوجات لم تعد دالة على التمدن أو التحضر.

أخلص لأقول في ختام وجهة نظري هذه أن مشروع القانون 22.20 هو بمثابة ردة حقوقية، وإن كنا اليوم نناقش فقط مسودة مسربة وليس قانون مر بكل المحطات اللازمة لصحته كتشريع، لكن كيفما كان شكل هذه المسودة أو هذه البدعة السياسية المتعلقة بتسريب مشروع قانون وليس الإعلان عنه أو نشره بالجريدة الرسمية. فهي استفزاز فكري لكل أحرار هذا الوطن، وإن تم العدول عنها فستضل وصمة عار على جبين من وافقوا ولو بصمتهم عن إصدارها في زمن الحرية، رغم أننا لا نشكك في دور المعارضة البرلمانية المعول عليها تفعيلا للمكنة الدستورية المتاحة لها وفقا لأحكام الفصل 10 من الدستور الذي جاء فيه”يضمن الدستور للمعارضة البرلمانية مكانة تخولها حقوقا، من شأنها تمكينها من النهوض بمهامها، على الوجه الأكمل، في العمل البرلماني والحياة السياسية. فإذا كان مونتيسكيو قد كتب “رسائل عن انجلترا” فنحن اليوم وبعد هذا التسريب نحتاج لمن يكتب لنا “رسائل عن المغرب” لعلنا نجد من يحسن قراءتها.
*****

[1] لكلِّ شخص حقُّ التمتُّع بحرِّية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقِّيها ونقلها إلى الآخرين، بأيَّة وسيلة ودونما اعتبار للحدود.

[2] لكل إنسان حق في حرية التعبير. ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها

[3] مونتسكيو، شارل – لوي دي سوكوندا، بارون دي لابريد ودي. کاتب أخلاقي ومفكر وفيلسوف فرنسي، ولد بالقرب من مدينة بوردو عام (1689 م) ومات عام (1755 م)، وكانت عائلته أرستقراطية غنية، ودرس القانون في بوردو، حيث تخرج محاميًّا عام (۱۷۰۸ م)، وأمضى بعد ذلك أربعة أعوام في باريس حيث حرر رسالة، ضاعت اليوم، حول هلاك الوثنيين الأبدي؛ وفيها أكد أن فلاسفة العصر القديم من يونان رومان لم يستأهلوا الجحيم، انتسب إلى أكاديمية بوردو منذ بداية حياته العلمية ثم انخرط في دراسة الفيزياء والرياضيات. ودرس نظريات نيوتن عن نظام الطبيعة قبل أن يتفرغ للفلسفة والدراسات السياسية ليصبح منبع الفلسفة السياسية الحديثة، ومؤسس مبادئها، لا سيما المبدأ الذي ترسخ في علوم السياسة منذ عصر التنوير، عصره، بالفصل بين السلطات الثلاث، والتوازن فيما بينها.

[4] يعتبر كتاب “روح الشرائع”، الصادر عام 1748م، من أعظم الكتب التي ظهرت في عصر الأنوار الذي سبق الثورة الفرنسية. مؤلف هذا الإنتاج الفكري الكبير، هو شارل لويس سيكوندا دي مونتيسكو، بارون دي لابريد، عندما كان في التاسعة والخمسين من عمره. الكتاب عبارة عن ثمرة عمر كامل من الجهد والتجربة والخبرة، وأربعين عاما من الدرس والبحث، وعشرين عاما من التأليف والمكابدة والمراجة والمعاناة.

[5]لمزيد من التفاصيل يمكن الاطلاع على مقالة تحت عنوان”مونتيسكو ومبدأ فصل السلطات” للأستاذ محمد زكريا توفيق، منشور يوم 07/02/ 2019 على موقع https://www.diwanalarab.com