
عودة الدفء للعلاقات المغربية الكينية: قراءة في الدلالات الجيوسياسيةوالديناميات الإقليمية

توفيق عطيفي، دكتور في القانون العام والعلوم السياسية
في خضم التحولات المتسارعة التي يعرفها النظام الدولي، أصبحت القارة الإفريقية فضاءً لتقاطع استراتيجيات وتنافسات متعدّدة، بين فاعلين دولتيين وغير دولتيين.
وفي هذا السياق، تندرج عودة العلاقات المغربية الكينية إلى مستوى جديد من التقارب،ليس باعتبارها مجرد تطور ثنائي عابر، بل كمعطى نوعي ضمن تحولات أوسع تمسّى موازين القوى داخل القارة، خصوصًا في ظل تراجع فعالية الخيارات التي راهنت عليها الجزائر لعقود، في سعيها إلى تكريس سردية الانفصال وتثبيت موطئ قدم استراتيجي في العمق الإفريقي.
إذا كانت كينيا تعد من الدول المحورية في شرق القارة، ولها تقاليد دبلوماسية متجذرة في دعم الطروحات الانفصالية داخل الاتحاد الإفريقي، فإن قرارها بفتح سفارة لهافي الرباط يعبّر عن تحوّل ذي دلالة، يُعيد ضبط بوصلتها الدبلوماسية على أسس براغماتية أكثر انسجامًا مع التحولات الجيوسياسية الراهنة.
ويُعزى هذا الانزياح، في جزء كبير منه، إلى عوامل متشابكة، من أبرزها: التغير السياسي الذي شهدته نيروبي مؤخرًا، وما أفرزه من توجه نحو سياسة خارجية أقل ارتباطًا بإرث الحرب الباردة، ثم تنامي الحضور الاقتصادي المغربي في شرق إفريقيا، لا سيما عبر المؤسسات البنكية والقطاعات الفلاحية والدينية، إضافة إلى التراجع الملموس في التأثير الرمزي والدبلوماسي للجزائر، مع ما يصاحبه من تصدع في الحزام التقليدي الداعم للبوليساريو داخل القارة.
ولا تخفى على المتابع الأبعاد السياسية والاستراتيجية لهذا التقارب، الذي يتعين على الفاعل المغربي الرسمي استثماره بشكل مدروس، ضمن مقاربة شمولية تأخذ بعين الاعتبار معطيات الأمن القومي والامتدادات الإفريقية للمصالح الوطنية.
فقد بات من الملاحظ أن العديد من الدول الإفريقية بدأت تتراجع عن اعترافها بالكيان الانفصالي، مثل زامبيا، مالاوي ومدغشقر، ما يجعل من كينيا، في السياق الراهن، حالة ذات وزن رمزي في ميزان التحولات القارية، ويحوّل تغيير موقفها إلى ضربة موجعة لمحور الجزائر– جنوب إفريقيا.
يندرج هذا التطور ضمن استراتيجية إفريقية مندمجة تبنّاها المغرب منذ عودته إلى الاتحاد الإفريقي سنة 2017، قائمة على مقاربة “الربح المشترك” وتوظيف أدوات القوة الناعمة بدل الاصطدام المباشر، من خلال توسيع الشراكات الاقتصادية، وتكثيف المبادرات الثقافية والدينية، والانخراط في قضايا التنمية والاستقرار.
في المقابل، تبدو الدبلوماسية الجزائرية في وضع انكشاف متزايد، حيث أبانت التطورات الأخيرة عن محدودية قدرتها على التأثير في القرار الإفريقي، خصوصًا أمام جاذبية العرض المغربي الذي يتأسس على منطق التعاون الميداني والمشاريع ذات القيمة المضافة.
ويُترجم هذا التراجع في تراجع عدد حلفائها داخل المنظمات الإفريقية، وفي تعمق عزلتها الإقليمية في محيط يتجه نحو شراكات مرنة وأكثر عقلانية.
هكذا يرسّخ المغرب موقعه كفاعل جيوسياسي مركزي في إفريقيا، يراكم عناصر القوة الصلبة والناعمة على السواء، من خلال شبكة واسعة من الشراكات المؤسساتية، ودينامية اقتصادية متنامية، ورؤية دبلوماسية متعددة الأبعاد، تجمع بين الرسمي وغير الرسمي، وبين السياسي والثقافي والديني.
وهو ما يمنح الرباط موقع “القوة الوسطى” القادرة على التأثير في التوازنات الإقليمية، دون السقوط في منطق الصراع المباشر.
إن التحول الكيني لا يمكن قراءته بمعزل عن هذا السياق العام، إذ يعكس اندفاعه إفريقية جديدة نحو منطق “الشراكات الاستراتيجية” على حساب “التحالفات العقائدية”، ويبرز كيف أن الفاعلين الصاعدين في القارة – كرواندا، السنغال، إثيوبيا وكينيا – أصبحوا أكثر انفتاحًا على مقاربات واقعية وفعالة، تفضّل الإنجاز الميداني على الانحياز الأيديولوجي.
خلاصة القول، إن قرار نيروبي فتح سفارتها في الرباط ليس مجرد خطوة بروتوكولية،بل مؤشر على تحول هيكلي في المعادلات القارية، يكرّس تقدم النموذج المغربي وتآكل السردية الانفصالية، ويؤكد أن الرهانات الجديدة في إفريقيا تُحسم بالعقلانية السياسية والمردودية التنموية، لا بالخطابات الشعبوية والتجييش الرمزي.
