
الثقافة الصينية تحل ضيفا على مهرجان الفنون الشعبية بمراكش

في قصر البديع، حيث تقام أبرز ليالي المهرجان الوطني للفنون الشعبية، احتضنت مراكش ليلة فنية مغربية صينية، عنوانها التبادل الحضاري، وجوهرها حوار الثقافات.
من شرق آسيا إلى غرب إفريقيا، امتدت خيوط التلاقي بين تراثين عريقين، يجمع بينهما تقدير مشترك للذاكرة الشعبية والفن اللامادي، إذ تماهت العروض الصينية مع لوحات الفلكلور المغربي، لتبرز في حدث واحد خصوصية كل بلد، وتظهر في الآن ذاته ما يربط الشعوب من قواسم إنسانية مشتركة.
فجاءت الإيقاعات القادمة من الشرق البعيد في نفس الاحتفاء مع رقصات أحواش، وأهازيج عبيدات الرمى، وإيقاعات الركادة والدقة المراكشية، دون أن يشعر المتفرج بأي نشاز، بل بدا كل شيء وكأنه جزء من نسيج سردي واحد، يحيكه الفن بمختلف لغاته.
هذه الليلة جاءت احتفاء بحضور جمهورية الصين الشعبية كضيف شرف في الدورة الرابعة والخمسين من المهرجان الوطني للفنون الشعبية بمراكش، حيث عرفت بنفسها من خلال فرق فنية قدمت عروضل تنهل من الموروث الموسيقي والراقص الصيني، في أمسية موضوعاتية أبرزت كيف يمكن للتراث أن يتحول إلى لغة دبلوماسية ناعمة، تتجاوز الكلمات وتخاطب الشعوب بإيقاع مشترك.
استهل الحفل بكلمة لمحمد الكنيديري، مدير المهرجان ورئيس جمعية الأطلس الكبير، الجهة المنظمة للتظاهرة، عبر فيها عن سعادته بانطلاق دورة جديدة من هذا الحدث الثقافي العريق، الذي يقام الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس.
واعتبر الكنيديري هذه الدورة التي تعرف مشاركة أكثر من 700 فنان وفنانة من مختلف مناطق المغرب، “عرسا فنيا وفرصة للاحتفاء برواد الفنون الشعبية والحفاظ على تراثنا الثقافي الأصيل”.
من جهته، عبر السفير الصيني بالمغرب، لي تشانغبين، عن اعتزاز بلاده بالمشاركة للمرة الثانية في هذا الحدث، الذي وصفه بـ”العالمي والمميز من حيث رمزيته الثقافية”، مشيرا إلى أن الحضور الصيني يهدف إلى إبراز القيمة الحضارية والتراثية للصين، والمساهمة في مدّ جسور الحوار مع الثقافات الأخرى، لا سيما مع المغرب الذي تربطه علاقات تاريخية متينة مع بلاده.
وقال تشانغبين في تصريحه للصحافة بالمناسبة:”إن هذه المشاركة تمثل فرصة لتعميق التفاهم الثقافي بين البلدين، مؤكدا أن الحدث يحمل “قيمة رمزية وثقافية كبيرة” ويعكس انفتاح المغرب على الآخر”.
كما اعتبر المسؤول الصيني أن المشاركة الفنية لبلاده في هذه الدورة لا تقتصر على حضور رمزي، بل تمثل رسالة حضارية تؤكد أهمية التعايش والانفتاح، مشددا على أن الفن الشعبي في جوهره يحمل عناصر الهوية، ويعبر عن ذاكرة الشعوب.
وأعرب ممثل الوفد الصيني، والمدير الفني لمجموعة نينغبو للفنون المسرحية، يان شياوبينغ، عن فخره بالمشاركة في مهرجان الفنون الشعبية بمراكش، معتبرا حضور الصين إلى المغرب يشكل لحظة مميزة في مسار التبادل الثقافي بين البلدين، مؤكدا أن الصداقة التي تجمع بين الشعبين الصيني والمغربي هي علاقة عميقة الجذور، تعكسها الرغبة المشتركة في مد جسور التفاهم من خلال الفن والتراث.
وأشار يان شياوبينغ في تصريحه للصحافة إلى أن الوفد جاء محملا بأجمل ما تزخر به الثقافة الصينية من عروض فنية وتعبيرات تراثية، جرى تقديمها بروح منفتحة على خصوصيات الفنون الشعبية المغربية، في محاولة لإحداث تفاعل حي بين الهويتين الثقافيتين، موضحا أن هذا التلاقي يبهر الجمهور، ويسهم فعليا في ترسيخ روابط الصداقة والتعاون بين البلدين، ويفتح آفاقا جديدة للتكامل الثقافي.
وأضاف بأن هذا النوع من التبادل الفني يشكل أرضية خصبة لفهم أعمق بين الشعوب، معربا عن أمله في أن تظل العلاقات الثقافية بين المغرب والصين متينة وممتدة، وأن تتجدد مثل هذه المبادرات في المستقبل، لما لها من دور محوري في تعزيز السلام والتعايش عبر العالم.
وبعد العرض الأول الممثل للصين، والذي افتتح ليلة الصداقة المغربية الصينية، كان الجمهور على موعد مع وصلات فنية رفقة مجموعات تراثية، إذ تعاقبت عشرات الفرق الشعبية على منصة قصر البديع لتقديم عروض حية تنتمي إلى تنويعات غنائية ورقصية متعددة: من جبال الأطلس إلى سهول الغرب، ومن صحارى الجنوب إلى تخوم الريف بين “أحيدوس”، و”أحواش”، و”الحصادة”، و”تاكيوين”، و”عيساوة”، و”كناوة”، بدا المهرجان كمرآة جماعية تعكس غنى المشهد الشعبي المغربي.
فرق مثل الركبة من زاكورة، وأحيدوس وأيت عمرو، وأحواش سيدي داود، بالإضافة إلى فرق من تاونات، ووقلعة مكونة،وغيرها، حضرت لتعزز الإحساس الجماعي بأن ما يربط المغاربة بتراثهم أعمق من مجرد فرجة، بل هو ارتباط وجداني وهوية تمتد في الزمن.
وسط الحشود، كان لافتا تفاعل الجمهور مع العروض، ليس كمشاهد سلبي، بل كمشارك فعلي في تجربة وجدانية، حيث تعالت الزغاريد، وتداخل التصفيق مع نقرات الطبول، في احتفاء حي بموروث لا يزال نابضا بالحياة.
شهد اليوم الثاني أيضا تكريم مجموعة من الفنانين القدامى الذين لعبوا أدوارا محورية في صون الأشكال التعبيرية التقليدية.
والمكرمون هم أحمد أعباش من مدينة طاطا، ورقية الكدير من فرقة أحواش تاماست بورزازات، إلى جانب عبد الصمد الكسيس عن فرقة كناوة مراكش.
وجرى تسليم جوائز التكريم من طرف رئيس جمعية الأطلس الكبير محمد الكنيديري، بحضور المديرة الجهوية لوزارة الشباب والثقافة والتواصل، أسماء لقماني، إلى جانب ممثل عن جهة مراكش-آسفي.
تستمر فعاليات المهرجان، المنظم تحت شعار “التراث اللامادي في حركة”، إلى غاية السابع من يوليوز الجاري، حيث تقام العروض في عدد من فضاءات المدينة الحمراء، أبرزها قصر البديع، وساحة جامع الفنا، وحديقة الحارثي، والمسرح الملكي، بالإضافة إلى منصات جديدة بفضاءات النزاهة، والكركرات، في برمجة تروم دمج الفنون الشعبية في الحياة اليومية للمدينة، وتعزيز التقاطع بين الفرجة التراثية والفضاء الحضري.
ويعد المهرجان الوطني للفنون الشعبية من أعرق التظاهرات الثقافية في المغرب، وقد نال اعترفا دوليا حين صنف من طرف منظمة اليونسكو سنة 2005 ضمن “روائع التراث الشفهي اللامادي للإنسانية”.
