الدكتور بنطلحة الدكالي يبرز خطورة الحروب الحديثة في استهداف الوعي الجماعي للمغاربة

الدكتور بنطلحة الدكالي يبرز خطورة الحروب الحديثة في استهداف الوعي الجماعي للمغاربة

د. محمد بنطلحة الدكالي – مدير المركز الوطني للابحاث والدراسات حول الصحراء

في زمن الصراعات المعاصرة لم تعد الحروب تخاض فقط بالسلاح أو بالضغط الاقتصادي؛ بل أصبحت تدار على مستوى أعمق وأخطر، وهو مستوى الإدراك والوعي. ما يعرف اليوم بالحرب الإدراكية (Cognitive Warfare) والحرب الإعلامية الرمزية (Symbolic Media Warfare) يشكل قلب الصراع غير المعلن بين الدول، حيث لا يكون الهدف تدمير قدرات الخصم المادية؛ بل إعادة تشكيل وعي شعبه تجاه ما يجري، وتجاه من هو العدو ومن هو المسؤول.

في هذا السياق تظهر آلية شديدة الخطورة تقوم على الجمع بين سلوك عدواني واقعي وبين خطاب إعلامي ناعم ظاهريا؛ فالدولة التي تمارس أفعالا عدائية متراكمة، مثل قطع الحدود أو إيقاف مصادر الطاقة أو التحريض على الانفصال أو شن حملات إعلامية ممنهجة، تلجأ في الوقت نفسه بآليات مختلفة إلى ترويج خطاب عاطفي موجه مباشرة إلى شعب الدولة المجاورة، يتجسد في شعارات من قبيل: “خاوة خاوة”؛ وهو شعار يتبين لغويا إلى أية جهة ينتمي. والأهم هنا هو أن هذا الشعار لا يصدر عن الشعب المستهدف، بل يصدر من الطرف الآخر نفسه، أي من الدولة التي تمارس العداء، عبر أجهزتها الإعلامية وشبه الإعلامية ومنصاتها الرقمية.

هذا المعطى ليس تفصيلا ثانويا، بل عنصر مركزي في فهم الحرب الإدراكية. فعندما يصدر خطاب الأخوة من الطرف المعتدي لا يكون تعبيرا بريئا عن حسن نية، بل أداة محسوبة ضمن منظومة الحرب النفسية والإدراكية (Psychological and Cognitive Operations).

الهدف الأول من هذا الخطاب هو تعطيل إدراك العداء، حيث يعاد تقديم السلوك العدواني كخلاف سياسي محدود بين أنظمة، لا كسياسة عدائية ممنهجة بين دول. الرسالة الضمنية تصبح واضحة: نحن لا نعاديكم كشعب، بل نعادي فقط من يحكمكم.

هنا تتدخل آلية الحرب الإعلامية الرمزية بشكل دقيق. فالشعار لا يقدم كطرح سياسي قابل للنقاش، بل كقيمة أخلاقية مطلقة. من يشكك فيه أو ينتقده يبدو وكأنه يرفض الأخوة أو التاريخ المشترك أو الروابط الإنسانية. وبهذا، يتم إغلاق باب التفكير النقدي مسبقا، ويتحول الصراع إلى معادلة أخلاقية زائفة، يظهر فيها المعتدي في صورة المسالم، بينما يصور الطرف الذي يدافع عن سيادته كطرف متشدد أو رافض للسلام.

الأخطر من ذلك هو أن هذا الخطاب يسعى إلى خلق شرخ داخلي نفسي بين الشعب وبين دولته. فمع التكرار المستمر لشعار “خاوة خاوة” القادم من الخارج، يترسخ في الوعي الجماعي أن دولته هي سبب التوتر، وأن القيادة هي من تضخم العداء أو تصنعه. ومع مرور الوقت تتآكل الثقة في المؤسسات، ويعاد تفسير أي موقف سيادي أو دفاعي على أنه تصعيد غير مبرر. وهكذا، تنجح الحرب الإدراكية في نقل الصراع من مواجهة خارجية واضحة إلى توتر داخلي صامت.

الحرب الإدراكية لا تستهدف تغيير المواقف السياسية فقط، بل تسعى إلى إعادة تعريف الواقع نفسه؛ فهي لا تطرح أسئلة من قبيل: من قطع الحدود؟ أو من أوقف الغاز؟ أو من حرض على الانفصال؟ بل تستبدلها بسؤال عاطفي مضلل: لماذا لا نعيش كإخوة؟ وبهذا التحويل يتم تجاوز الوقائع المادية الصلبة وتعليق الصراع داخل فضاء رمزي عاطفي يخدم الطرف المعتدي.

تكمن خطورة هذه الآليات في بساطتها وقابليتها العالية للاستهلاك الجماهيري. فهي شعارات سهلة، قصيرة، متكررة، ولا تتطلب معرفة سياسية أو تحليلا جيوسياسيا. وهي تنجح خصوصا في البيئات التي لا تتوفر فيها ثقافة تحليل الخطاب السياسي ولا تدريب الرأي العام على التمييز بين الكلام ووظيفته، وبين الرمز وما يخفيه.

الخلاصة أن شعار “خاوة خاوة” حين يصدر عن الطرف الذي يمارس سلوكا عدوانيا تجاه دولة مجاورة لا يمكن فهمه خارج إطار الحرب الإعلامية (Media Warfare) و الحرب الإدراكية (Cognitive Warfare). هو ليس جسرا للتقارب؛ بل أداة لتخدير الوعي وتحييد الغضب وتفكيك الجبهة الداخلية للخصم. ولا يعني الوعي بهذه الحقيقة معاداة الشعوب ولا إنكار الروابط الإنسانية؛ بل يعني قراءة الكلمات في ضوء الأفعال، وفهم الخطاب بوصفه سلاحا حين يستخدم لتغطية العداء لا لإنهائه.

videossloader مشاهدة المزيد ←